تاريخ الخروج من مصر من مصادر فرعونية - الجزء الثالث
جنونك اليوم قد يكون نبوة لابنائك غدا!
نعم. ولا ينطبق هذا على أخناتون فقط! لكن إيمان المصريين القدماء بالحياة الآخرة والحساب والعقاب بعد الموت وصل بهم ان يلاقوا الاحترام اللائق بالملوك بعد 3500 سنة من موتهم في #موكب_المومياوات_الملكية الذي شهدناه لهم في شوارع القاهرة امس.. وهذا درب من الخيال بالتأكيد!
في الأجزاء السابقة تكلمنا عن الملك أحمس ومولد النبي موسى ودخول بني ابينا يعقوب مصر معهم بحثا عن الرزق والطعام وهرباً من المجاعة وكيف رُتب ليوسف ان يكون عزيز مصر ونجاته من أخوته، ليكتب الله النجاة لهم به بعد ذلك..
الجزء الأول هنا:
https://orthozoxiya.blogspot.com/2021/04/blog-post.html
والجزء الثاني هنا:
وفي الجزء الأخير سنتكلم عن اخناتون! هذا الاسم لأغرب ملوك الدنيا فله قصة كلها غموض: فلماذا يقوم ملك بمناصبة رعيته العداء من اجل فكر جديد! هل كان سياسي طامع في السيطرة الكاملة أم درويشاً راهباً؟ ماذا كان ينقص هذا الرجل وزوجته ليحاولا تغير معتقد راسخ في الدولة المصرية منذ الف سنة؟ لغز محير لحكم دام 17 سنة منهم ثمن سنين بناء تحسب من سنته الرابعة وخمس سنين الأخيرة في وباء منهم ثلاث سنين تحت الحجر بعد تركة الحياة في طيبة والإعتكاف بعاصمته الجديدة اخيتاتون جنوب الوادي (تل العمارنة في محافظة المنيا)
لنحكي حكاية الملك اخناتون. لكن أولاً يجب ان نؤكد ان مصر لم تكن دائما رمزاً للعناد بل على العكس كانت دائما بلد ملجئ لكل من يحتاج اليها. بل ان معظم الأنبياء دخلوها ليس فقط من اجل الطعام والقمح كما حدث مع إبراهيم النبي وبني يعقوب، بل وهرباً أحياناً أخرى من بطش الحكام والاعداء كما حدث مع السيد المسيح نفسة ومن قبلة ارميا النبي وسيدنا اسماعيل مع امه هاجر وغيرهم.. بل وزارها نبي الله إيليا وداوود النبي والملك سليمان أيضا لو احتسبنا زيارة جبل سيناء كزيارة دينية للعبادة والاعتكاف.
اختصاراً، معظم انبياء الله قد لجأوا الى مصر القريبة لهم ولم تبخل مصر عليهم بالرزق والأمن والسكينة، الا في حالة موسى النبي، وقد حكينا ظروف هذه القصة من جهة المصريين والملك أحمس وتحتمس.. وهي كلها مبررة وفي ثياقها الطبيعي الغير شرير او السئ. وحتى في قصة الخروج جبر الله خاطر بني يعقوب قبل الخروج وامرهم ان يطلبوا من المصريين ذهباً ثمن تعبهم، فيقول النص: وَأُعْطِي نِعْمَةً لِهذَا الشَّعْبِ فِي عِيُونِ الْمِصْرِيِّينَ. فَيَكُونُ حِينَمَا تَمْضُونَ أَنَّكُمْ لاَ تَمْضُونَ فَارِغِينَ. بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا وَمِنْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا، وَتَضَعُونَهَا عَلَى بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ.
وبما ان هذه القصة وقعت في الشرقية وهي المحافظة الأكثر كرماُ في مصر، لا استعجب من احداثها، فمكتوب ان المصريين الشرقوه ودعوا جيرانهم العبرانيين باعارتهم ذهبهم لمشاق الطريق.. وفوق الذهب دموعهم بالطبع. وكلنا نعلم لو حدثت هذه القصة في أقاليم أخرى كالمنوفية او أسيوط مثلا، من المؤكد ان هذا الوضع قد يمكن يكون مختلفاً قليلاً!.. او حتى لن تكون هناك قصة من الأساس! حيث ان اهل هذة الإقاليم في احسن الأحوال لن يتركوا لاحد شيء ناهيك عن من ناصبوهم العداء.
بل اكثر من هذا، أوصى كاتب التوراة العبرانيين بأن لا يكرهوا لا مصريا ولا ادومياً (ادوم سكان صحراء النقب والأردن) بما أنهم كانوا نزلاء بأرض مصر وبعد ان اخذوا اجرتهم من اجل تصفية العداء يقول لهم كاتب النص: لاَ تَكْرَهْ أَدُومِيًّا لأَنَّهُ أَخُوكَ. لاَ تَكْرَهْ مِصْرِيًّا لأَنَّكَ كُنْتَ نَزِيلًا فِي أَرْضِهِ. بل أوصى أيضا كاتب التورة العبرانيين بقبول المصري والأدومي في جماعة الرب في جيلهم الثالث! وهذا يعتبر الاستثناء الوحيد في بني الامم: لأَوْلاَدُ الَّذِينَ يُولَدُونَ لَهُمْ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ يَدْخُلُونَ مِنْهُمْ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ.
وأخيراً، تعلمت مصر من ازمة الهكسوس دروس كثيرة أهمها يالطبع الدفاع المتقدم عن حدود البلاد او ما يعرف بالعمق الاستراتيجي. فبعد الملك أحمس وتحرير الشمال، أصبحت سياسة حكام مصر توسعية بهدف تأمين المملكة، فمثلا غزا تحتمس الثالث الشام والنوبة بل وعين حكام له هناك ليحكموا بأسمه ويكونوا حلفاء له (والملك سليمان كان حليف فرعون بزواج من ينات فرعون). من مجدو في الشام شمالا الى ارضي النوبة والسودان جنوباً وحتى قبائل ليبيا كانت في حيز السيطرة المصرية. وتعلمت أيضا مصر أهمية ضبط وتأمين الحدود من الاغراب. وسياسات التعامل مع الأجانب والمهاجرين.. واغلب الظن أن السنين التيه كانت في عهد هذا الرجل تحتمس الثالث!
نرجع اللى قصة ملكنا المجنون.. او النبي؟، عُرفت مصر بأنها ارض الشمس وكان كل حكامها يحكمون باسم معبودها أمون رع اله الشمس منذ القدم. وحتى اله القمر كان من الأله الغير شعبية في مصر. لكن قرر اخناتون ان يوحد كل الأله في "اتون" وهو أيضا اله الشمس! ويرمز له بقرصها.. لكن بشرط الغاء كل اشكال الاله الصغرى والكبرى الموجودة في ارض مصر وقتها!
وهو ما لم يكن غريب فقط. بل من الجنون ان يعبد اله واحد في هذا الزمن. فحاول توحيد آلهة مصر القديمة حيث تعددت الآلهة التي تعبد في مناطقها المختلفة بما فيها الإله الأكبر أمون رع؛ في شكل الإله الواحد آتون. ونقل العاصمة من طيبة الي عاصمته الجديدة أخيتاتون بالمنيا (تل العمارنة). وغير اسمة من "أمون حتب" الى "اخن اتون" في العام الخامس لحكمة.. وزوجته كانت توافقة في هذا التغيير الذي لا نعرف كيف حدث فحتى جيرانه الموحدين كاليهود لم يكن التوحيد تمكن فيهم بعد، فكلنا نعرف انهم قبلوا التوحيد بعد ضربة الشتات.
الاعجب من هذا رفض هذا الملك لنحت شكلة وتصويرة بطريقة محسنة بجسم قوي كما هو معتاد. بل بالعكس اصر على الحقيقة كما هي او ما يعرف بالفن الواقعي. وتم تصويره ونحته بترهلات السن وشفاه غليظة ووجه طويل كما كان شكلة. هذا الفكر التوحيدي بلا أي شك عندي انه كان تحت تأثير خارق للطبيعة او معجزة أو تعاليم مبكرة مجهولة المصدر. فنحن لا نعرف احد في مصر من قبلة او من بعدة علم بما قال اخناتون. بل ظل في حياته وبعد وفاتة يدفع ضريبة هذا الختلاف!
وفي النهاية، يجب علينا ان نذكر ان اخناتون اعتكف في نهاية حياته بمدينته بتل العمارنة، اعتكاف اقرب الى الزهد. وحدث هذا بعد السنة 12 لحكمه، وتذكر المصادر ان الوباء ضرب مصر بعد هذه السنة.. ودليلنا في زهد اخناتون هو مخزن المراسلات السياسية الذي وجدناه في تل العمارنة. وفيه مراسلات بشتى اللغات المعروفة وقتها، من حكام أقاليم خارجية في بلاد الشام وارض كنعان وحكام النوبة جنوباً. ومنهم استغاثة من حاكم أورشليم واسمه "عبد هيبه" من هجوم قبائل العبيرو (العابره او الهجامة) علية بعنوان "التجاهل الملكي". وهناك طلب اخر لعجلات حربية لزوم اخافة الأعداء فقط بأظهار ان الجيش المصري يساندهم في معاركهم.. لكن ملكنا الزاهد لم يهتم كثيراً!!! حتى انه تم تعين حاكم موازي للبلاد في اخر ثلاث سنوات من حكمة. وارغام ابنه توت عنخ امون على الارتداد عن عبادة آتون وجحد والدة اخناتون بعد موته. بل وتغير اسمة من "توت عنخ اتون" الى "توت عنخ امون" وترك اخيتاتون جنوباً بل وهدمها وازالة كل اثر لها.
0 comments: